كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن وجوه الترجيح أنّه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا ذا فائدة كبيرة، إذ ما فائدة أن يقال: إنّ القرآن في مستور، وكل الكتب كذلك.
إنما سيقت الآية الكريمة لمدحه وتشريفه، وبيان الخصال التي اختص بها، والتي تدلّ على أنّه منزل من عند اللّه، وأنّه محفوظ مصون، لا تصل إليه الشياطين، ولا يمسه إلا السفرة الكرام البررة.
نعم إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنا، حيث قال: إنّ الآية تدلّ على الحكم من باب الإشارة والتنبيه، لأنّه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر.
على أنّهم لو ذهبوا إلى السنة لوجدوا بها الذين يطلبون،
فقد روى أصحاب السنن من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أنّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات:
«ألا يمسّ القرآن إلا طاهر».
وقد رجّح العلماء صحة ما رواه ابن حبان في (صحيحه) ومالك في (الموطأ) ثم الآثار بعد ذلك كثيرة.
ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إلى ترجيح أحد الآراء على غيره في التفسير، أما الحكم فنحن نسلم به من دليله إذا كان في غير الآية، والآثار عليه كثيرة: منها ما ورد في حديث إسلام عمر أنّه قال لأخته: أعطوني الكتاب الذي تقرءون، فقالت: لا يمسه إلا المطهرون، فقام، واغتسل، وأسلم ومسّ المصحف.
وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يأمرون أبناءهم بالوضوء لمس المصحف.
وعن الحسن والنخعي كراهة مس المصحف على غير وضوء. ثم اسمع رأي الجصاص بعد أن نقل الخلاف الذي عرفت آنفا، قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند اللّه، والمطهرون الملائكة. وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب لعمرو بن حزم «و لا يمس القرآن إلا طاهر».
فوجب أن يكون نهيه هذا بالآية إذ هي تحتمله.
ولننتقل بعد ذلك للكلام في القسم وفاء بالذي وعدناك، وسيكون كلامنا في الموضوع من ناحيتين:
ناحية القسم من اللّه.
وناحية بمواقع النجوم خاصّة لأنه معنا، ومن حقك أن تعرف وجه القسم بها، واختصاصها بالموضع الذي وردت فيه. فنقول:
قد رأيت أول ما كتبنا أنّا سقنا لك أنواعا من القسم الوارد في القرآن، فعرفت أنّه أقسم بذاته، وأنّه أقسم بأشياء غير الذات، ومنها القرآن الكريم، وأريناك أمثالا كثيرة {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الذاريات: 23] {يس (1) وَالقرآن الْحَكِيمِ (2)} [يس] {وَالصَّافَّاتِ وَالطُّورِ (1)} إلخ، وقد كان العلماء فرقتين في قسمه بغير ذاته، فمنهم من سلك طريق التأويل، وصرف العبارات عن ظاهرها، فقالوا مثلا {يس (1) وَالقرآن الْحَكِيمِ (2)}: أي وربّ القرآن الحكيم، {وَالضُّحى (1)}: ورب الضحى. وهلم جرا.
وزعموا أن الذي حملهم على هذا التأويل أنهم:
1- قد رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير اللّه، وقال: «من كان حالفا فيحلف باللّه أو ليذر»، والنهي يقتضي قبح المنهي عنه، فإذا ورد في الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغير اللّه وجب تأويله، وردّه إلى أن يكون حلفا باللّه.
2- أنّ الحلف بالشيء يقتضي أن يكون المقسم به معظما، والتعظيم لا يكون إلا للّه، فوجب أن تحمل الأقسام على ذلك.
3- أنه قد ورد مصرّحا به على هذا النحو في قوله تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)} [الشمس] حيث جاء الحلف بالذات بعد الحلف بالسماء وبالأرض وبالنفس، فلابدّ أن يكون القسم في الجميع على هذا المعنى.
أما الفرقة الأخرى من العلماء فذهبت إلى أنّ القسم وقع بأعيان الأشياء المقسم بها، وقد قالوا في الاحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه:
1- أن القسم هو بهذه الأشياء في الظاهر، والعدول عنه عدول عن الظاهر، ولا يكون إلا لدليل، وما ذكرتم لا يصلح دليلا، لأن ما منع من العباد لا يلزم أن يكون ممنوعا صدوره من اللّه. إذ المانع في حق العباد أن في القسم بغير اللّه تعظيما لذلك الغير، والعباد يجب ألا يشركوا مع اللّه أحدا في التعظيم. وهذا المعنى غير مدرك في جانب اللّه تعالى، فهو إذ يعظّم، فإنما يعظّم أشياء دانت له بالربوبية، ولا يمكن في العقل أن تتعاظم على من هي في قبضة يده وبسطة سلطانه.
وهو إذا يعرّف الناس بعظمتها، فإنما يرشدهم إلى عظمة خالقها، وأنه إذ يقسم بها فإنما يقسم لأنّ لها شأنا بديعا، ومنفعة عند العبد يدركها، وينتقل من إدراك إتقان صنعها إلى أنه لابد أن تكون صادرة عن المدبر الحكيم، اللطيف الخبير، ثم هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده، والحلف بها تذكير بالنعمة لتقابل بالشكر.
2- إنه قال تعالى: {وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)} فأقسم بالسماء، ثم عطف عليها ما بناها، وذلك على طريقتكم قسم بالباني، فلو كان القسم على تقدير مضاف لتكرر القسم في الموضع الواحد من غير موجب، إذ يصير المعنى وباني السماء وبانيها، وطاحي الأرض وطاحيها، ومسوّي نفس ومسويها.
ومثل هذا ينزّه عنه القرآن الكريم.
ولو قلنا على طريقتنا إنّ هذا قسم بالسماء وببانيها، أو ببنايتها لم يلزم هذا المحذور، فتعيّن أن يكون القسم قسما بأعيان هذه الأشياء.
3- أنّه لا يبعد أن يقسم بهذه الأشياء تنبيها إلى شرفها، وما حوت من إبداع وإتقان، ليكون ذلك دليلا على عظمة خالقها، وأنّه إله واحد. ويكون ذلك من تضافر الحجج على المدعى الواحد، فهو قسم واستدلال بما في المقسم به من وجوه الدلالة المختلفة، ومن أجل ذلك نقول: لا داعي إلى التأويل، والقسم قسم بأعيان الأشياء وحقيقتها.
وهنا سؤال يتردّد كثيرا، حاصله أن يقال: ما فائدة القسم؟ والمخاطب أحد رجلين: مؤمن بالقرآن، ومكذب به، وما كان المؤمن محتاجا وهو مؤمن إلى قسم، فهو مصدّق من غير يمين. وإن كان من المكذبين الذين لم تغنهم الآيات والنذر، فكيف يصدّق لمجرد القسم بعد أن لم يؤثّر فيه الدليل؟
ويقول العلماء جوابا عن هذا: إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى، فالدعاوى لها ما يثبتها، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم، والقرآن بلغتهم نزل.
على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به، فهو يذكر في معرض القسم، وهو مخلوق من المخلوقات، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة: ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم، ويكون حاصل المعنى، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق.
وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم:
يقول اللّه تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى، وما يكون فيها من أشياء جسام {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)} ثم ذكر اللّه أقسام الخلق يومئذ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فلولا تَذَكَّرُونَ (62)}.
ثم ذكر إخراج النبات من الأرض، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار، وسأل الناس {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)} ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن، وكرمه وصونه، وحفظه، وأنه تنزيل من رب العالمين.
وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت:
فقد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: النجوم آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير، ومقاتل، وقتادة.
وقيل: النجوم الكواكب، ومواقعها مساقطها عند الغروب، وهو قول أبي عبيدة، وقد تقدم قول كهذا.
وقيل: بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة، وهو مروي عن الحسن.
ويقول الذي يقول المواقع المساقط عند الغروب: إنّ اللّه تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها، وجريانها وغروبها، إذ فيها، وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة.
والنجوم متى ذكرت في القرآن الكريم فالمراد منها الكواكب، انظر إلى قوله تعالى: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ} [الأعراف: 54] ومن هنا يمكن أن يقال- بل هو قد قيل: إنّ المناسبة بين المقسم به وهو النجوم ومواقعها، وبين المقسم عليه وهو القرآن، أنّ النجوم جعلها اللّه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، تلك يؤمن جانبها بالنجوم، وهذه تتوقى بهداية القرآن، فالقسم هنا قد جمع فيه بين هدايتين.
هداية ومنافع، ليدير الناس وجوههم إلى القرآن، ويتبصّروا ما فيه جيدا، فيعلموا أنّه هاديهم الذي لا يضلون معه. ولا تنس كذلك أنّ اللّه قد جعل النجوم رجوما للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم الشياطين ما تجعل الشياطين يولّون عند سماعه، وما نريد أن نترك هذا الموضع حتى نسمعك رأي الفخر الرازي في هذا:
قال رحمه اللّه بعد سؤال حاصله: هل في القسم بمواقع النجوم خاصة فائدة؟
قلنا: نعم، فائدة جليلة، وبيانها أنّا قد ذكرنا أنّ القسم بمواقعها، وأن المواقع كما هي مقسم به، هي من الدلائل، وقد بيّناه في الذاريات، وفي الطور، وفي النجم، وفي غيرها، فنقول هي هنا كذلك.
وذلك من حيث أنّ اللّه تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المني وموته، بيّن بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس، قدرته واختياره، ولما كان هذا دليلا من دلائل الأنفس ذكر أيضا من دلائل الآفاق على قدرته واختياره فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ} إلى غير ذلك، وذكر قدرته على زرعه، وجعله حطاما. وخلقه الماء عذبا فراتا، وجعله أجاجا، إشارة إلى أنّ القادر على الضدين مختار، ولما لم يكن قد ذكر من الدلائل السماوية شيئا، ذكر الدليل السماوي في معرض القسم، وقال: {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} فإنها أيضا دليل الاختيار، لأنّ كون كلّ واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل على أنّ الفاعل مختار. فقال: {بِمَواقِعِ النُّجُومِ} ليشير إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر، كما قال تعالى: